
الميتوكوندريا.. العامل المشترك في أمراض نمط الحياة
هناك بعض المشاكل الصحية التي نقول إنها مرتبطة بنمط الحياة، ومن الممكن جدًا أن تعالج ببعض التغييرات، ورغم أن هذه المشاكل مختلفة مثل: أمراض السكر، والضغط والصداع النصفي، ومتلازمة التعب المزمن، وضعف المناعة، والاكتئاب، وأمراض الشيخوخة، مثل الألزهايمر وغيرهم الكثير.
لكن رغم هذا الاختلاف هناك عوامل مشتركة فيما بينهم، وفي مقال اليوم سأحدثكم عن عامل مشترك مهم جدًا يجمع بين كل هذه الأمراض وهو ضعف وانخفاض وظيفة الميتوكوندريا.
ما هي الميتوكوندريا؟، كيف تعمل؟، وكيف يمكن أن تكون سببًا في كل هذه الأمراض ولماذا قد تضعف وظيفتها؟ هذا ما سنتعرف عليه الآن.
تنوع الخلايا ووظائف الميتوكوندريا
خلايا أجسامنا هذه شيء إعجازي فعلاً. تعمل بدقة وتعقيد كبيرين، لدرجة أن كل خلية تعمل بطريقة مختلفة تمامًا حسب موقعها ووظيفتها. فالخلية الدهنية تختلف عن خلايا العضلات، وتختلف عن خلايا القلب، والرئة، وخلايا الدماغ.
وسأعطيكم مثالًا بسيطًا للغاية...
الميتوكوندريا التي تحدثنا عنها، هي وحدات إنتاج الطاقة داخل الخلية.
هل تعلمون أن عدد وحدات الميتوكوندريا داخل الخلية يختلف اختلافًا كبيرًا جدًا حسب نوع الخلية ووظيفتها؟
بمعنى مثلًا، متوسط عدد الميتوكوندريا داخل معظم خلايا الجسم هو تقريبًا ألف ميتوكوندريا في الخلية الواحدة.
معظم الخلايا تحتوي على ما يقارب ٣٠٠ ميتوكوندريا، بينما خلايا الكبد تصل إلى ٢٠٠٠، وخلايا القلب تحتوي على نحو ٥٠٠٠ ميتوكوندريا في الخلية الواحدة.
أتدرون ما هي أكثر الخلايا التي تحتوي على أعداد مهولة من الميتوكوندريا؟
الخلية الواحدة في المخ تحتوي على ملايين من الميتوكوندريا
وذلك لأن المخ هو أكثر عضو يحتاج إلى الطاقة ليعمل بالشكل الصحيح، حيث يستهلك المخ حوالي ٧٠٪ من طاقة الجسم.
كيف تنتج الميتوكوندريا الطاقة؟ ولماذا يؤثر ضعفها على صحتنا؟
الميتوكوندريا هي الجزء الموجود داخل الخلية الذي يستخدم الدهون والأكسجين ليقوم بعملية إنتاج الـATP، وهي "عملة الطاقة" التي يمكن للجسم استخدامها.
هذه العملة هي التي تحدد مستوى الطاقة وعمل أجهزة الجسم. فكلما زادت مستوياتها، كانت صحة أعضائك أفضل، والعكس صحيح.
على سبيل المثال:
كلما قلّ إنتاج الـATP في الدماغ، قلّ التركيز، وزادت الضبابية، وضعفت قدرة الدماغ على التخلص من النفايات الخلوية. ومع الوقت، قد تظهر أعراض الشيخوخة مثل الخرف ومرض الألزهايمر، والذي يرتبط بشكل كبير بتراكم الأميلويد في الدماغ.
وكلما قلّ إنتاج الـATP، ضعفت المناعة، وزادت عمليات الالتهاب في الجسم.
وكلما قلّ إنتاجه في العضلات، أصبحت قدرة العضلات على التحمل أضعف، وزاد الألم، حتى أن اللمس قد يصبح مؤلمًا، وهو عرض شائع لدى المصابين بمتلازمة التعب المزمن والفيبرومايلجيا.
وكلما قلّ في الكبد مثلًا، ضعفت قدرة الجسم على التخلص من السموم.
ولكي تتمكن الخلية من إنتاج الـATP بشكل كافٍ، لا بد من وجود عدد كافٍ من الميتوكوندريا السليمة.
لماذا تتلف الميتوكوندريا؟ وأبرز الأسباب الشائعة
هناك أسباب متعددة، من بينها أسباب جينية. فالحمض النووي الخاص بالميتوكوندريا يُنقل دائمًا من الأم إلى الأبناء، فكلما كان الحمض النووي للميتوكوندريا لدى الأم قويًا، كان كذلك لدى الأبناء، والعكس بالعكس.
لكن، هل لو ورثت جينات ليست في أفضل حالاتها، يعني أن الأمر انتهى؟
بالطبع لا، فهناك الكثير من الأمور التي يمكننا القيام بها، وسنعود إليها لاحقًا. ولكن دعونا نكمل الآن الحديث عن بعض السلوكيات والعوامل التي نقوم بها وتؤثر سلبًا على سلامة الميتوكوندريا.
من بين هذه العوامل:
- التعرض للسموم البيئية مثل المعادن الثقيلة وتراكمها في الجسم، كالزئبق والرصاص.
- المواد الكيميائية والمبيدات التي نتعرض لها بكثرة بسبب رش المحاصيل. وكلما صَعُب على الجسم التخلص منها، زادت تراكمًا.
- التدخين، وهو إدخال سموم نقية إلى الجسم يوميًا.
- تناول الكحول، فالكحوليات من أكثر المواد ضررًا للميتوكوندريا.
- الأمراض المرتبطة بارتفاع معدلات الالتهاب، وخصوصًا مرض السكري، حيث يضاعف من عمليات الإجهاد التأكسدي.
كما توجد عوامل أخرى لا تقل ضررًا على المدى البعيد مثل:
- الضغوط النفسية المزمنة
- قلة النوم
- نمط الحياة الخامل وعدم ممارسة النشاط البدني
فإذا كنت تمارس عددًا كبيرًا من هذه العادات، فلا تستغرب من شعورك المستمر بالتعب، أو من الألم المزمن، أو من مشاكل الهضم، أو التدهور التدريجي في صحتك... فأنت تؤذي وحدات إنتاج الطاقة في جسدك.
كيف ندعم الميتوكوندريا؟
ما رأيكم أن نبدأ الآن في التعرف على أهم الخطوات الضرورية لتحسين وظيفة الميتوكوندريا وزيادة أعدادها؟
أولًا، لا بد من تجنب العادات اليومية الضارة التي تؤذي صحة الميتوكوندريا، مثل:
سوء التغذية، قلة النوم، والتدخين، كما ذكرنا سابقًا.
أما العوامل الإيجابية المهمة جدًا، فأولها هو:
- الصيام
فلنرَ كيف يؤثر الصيام على الميتوكوندريا:
- الصيام يحفز عملية تكاثر الميتوكوندريا، وهي العملية التي تؤدي إلى زيادة أعدادها داخل الخلايا.
- هذا التحفيز يؤدي إلى تنشيط إنزيم AMPK، وهو الإنزيم المسؤول عن تنظيم عملية إنتاج الطاقة داخل الخلية.
- إنزيم AMPK مرتبط بشكل وثيق بزيادة حساسية الإنسولين وعمليات حرق الدهون، ولهذا يعتبر الصيام من أكثر الممارسات فاعلية في علاج مشاكل السكري ومقاومة الإنسولين.
الصيام أيضًا يدفع الميتوكوندريا للعمل بكفاءة أعلى، حيث يدخل الجسم - جزئيًا على الأقل - في الحالة الكيتونية خلال فترات الصيام، ويبدأ في الاعتماد على حرق الدهون كمصدر للطاقة.
ولكي يتمكن الجسم من حرق الدهون بكفاءة، فهو يحتاج إلى وظيفة سليمة وعدد كافٍ من الميتوكوندريا، مما يحفز تطورها وزيادة أعدادها.
كما أن الصيام يدعم كفاءة الميتوكوندريا من خلال تفعيل عملية الالتهام الذاتي (Autophagy)، وهي العملية التي يتخلص فيها الجسم من الميتوكوندريا التالفة ويُنتج وحدات جديدة بدلاً منها.
بالتالي، يمكن اعتبار الصيام عملية صيانة دورية شاملة للميتوكوندريا.
- ثانيًا: الرياضة
التمارين الرياضية مرتفعة الشدة، مثل تمارين رفع الأثقال (Weight Lifting) والتمارين الهوائية المكثفة (HIIT Cardio)، لها تأثير كبير على صحة وكفاءة الميتوكوندريا.
فما الذي تفعله هذه التمارين تحديدًا؟
أثناء التمرين، تحتاج العضلات إلى طاقة أكثر من المعتاد، فيزداد الطلب على عملة الطاقة ATP التي تنتجها الميتوكوندريا، مما يحفز الجسم على إنتاج خلايا ميتوكوندريا جديدة.
جانب آخر مهم:
كما أن الصيام يحسّن من قدرة الميتوكوندريا على استخدام الدهون كمصدر للطاقة، فإن الرياضة تحسّن من قدرتها على استخدام الأكسجين، مما يجعلها أكثر كفاءة في عمليات إنتاج الطاقة.
لماذا الرياضة مهمة؟
الميتوكوندريا تشبه إلى حد كبير منظم الطاقة داخل الجسم. هي مثل "المفتاح" الذي يتحكم في كمية الطاقة التي يحتاجها الجسم اليوم.
فإن كنت جالسًا طوال اليوم دون حركة، وتتناول أطعمة ذات سعرات حرارية مرتفعة، فإن الجسم يتلقى طاقة لا يحتاجها. لماذا يُتعب نفسه إذن؟
في هذه الحالة، تقوم الميتوكوندريا "بخفض الإنتاج"، وتنتج فقط الحد الأدنى من الطاقة التي قد يحتاجها الجسم.
أما إذا كنت صائمًا، وتتبع نظامًا غذائيًا صحيًا غنيًا بالعناصر الغذائية المهمة، وتتحرك كثيرًا، وتمارس التمارين الرياضية بانتظام، فالجسم يدخل في ما يشبه "حالة الطوارئ" ويقوم بتحفيز الميتوكوندريا على العمل بكامل طاقتها، وإنتاج المزيد منها.
والأهم من ذلك، أن التمارين الرياضية تحفّز أيضًا عملية الالتهام الذاتي (Autophagy)، التي تساعد الجسم على التخلص من الميتوكوندريا التالفة، وتدفع نحو إنتاج ميتوكوندريا جديدة وصحية.
مكملات غذائية تدعم الميتوكوندريا
هل هناك شيء آخر يمكننا فعله لتحسين صحة وكفاءة الميتوكوندريا؟
بالطبع، هناك مكملان غذائيان يُعدّان من الأفضل في دعم صحة الميتوكوندريا، وأول هذه المكملات هو:
- مركب PQQ
قد لا يكون مكمل الـPQQ (بيرولوكينولين كينون) شهيرًا جدًا، وربما يسمع عنه البعض لأول مرة الآن، لكنه يُعد من أهم المركبات على الإطلاق لصحة الميتوكوندريا.
الـPQQ هو مركب يوجد طبيعيًا في العديد من الأطعمة النباتية مثل:
الكيوي، البابايا، الفلفل الأخضر، الشاي الأخضر، والبقدونس.
بدون هذا المركب، لا تستطيع الإنزيمات المسؤولة عن بناء الميتوكوندريا القيام بوظائفها، وبالتالي لا يتم إنتاج ميتوكوندريا جديدة.
وغياب الميتوكوندريا الجديدة يعني ببساطة: تسارع الشيخوخة، حتى لو كان عمرك الحقيقي في العشرينات أو الثلاثينات.
لماذا نحتاج لتناول PQQ من المكملات الغذائية طالما أنه موجود في الأطعمة النباتية؟
لأن الكميات الموجودة في الطعام ضئيلة جدًا، وتكاد لا تُحدث فرقًا واضحًا في تحسين كفاءة الميتوكوندريا أو في معالجة المشكلات المرتبطة بها.
حتى لو كان نظامك الغذائي غنيًا بالأطعمة التي تحتوي على PQQ، فأنت على الأرجح ستحصل منه على ميكروجرامات فقط، وهي كمية لا تكفي لتحقيق تأثير علاجي ملموس.
سنأتي لاحقًا إلى الجرعة المثالية، وسأخبركم ما هي أفضل الجرعات التي أثبتت الدراسات أنها فعالة.
- ثانيًًا: الإنزيم المساعد CoQ10
أما المكمل الثاني الذي يُعد ضروريًا لدعم صحة الميتوكوندريا فهو: الإنزيم المساعد Coenzyme Q10، أو كما يُعرف اختصارًا بـCoQ10.
كنا قد تحدثنا عنه سابقًا بشيء من التفصيل، فهو يؤدي وظيفة مشابهة جدًا لـPQQ، حيث يشارك بشكل مباشر في عمليات إنتاج الطاقة داخل الميتوكوندريا.
لكن ما يميّز CoQ10 عن PQQ، أن جسمنا يستطيع إنتاجه بشكل طبيعي، بكميات محدودة، ولا نعتمد بالكامل على المصادر الخارجية للحصول عليه.
ورغم ذلك، فإن مستوياته تنخفض بشكل ملحوظ في الجسم لعدة أسباب، من أبرزها:
- التقدّم في السن
- التعرض للتوتر والضغوط النفسية
- تناول العديد من الأدوية، خاصة أدوية الضغط والكوليسترول
وهنا تظهر أهمية الحصول على CoQ10 من المكملات الغذائية، لتعويض هذا النقص وتحفيز عمل الميتوكوندريا بشكل أفضل، خصوصًا في المراحل التي يبدأ فيها الجسم بفقدان قدرته الطبيعية على إنتاجه.
PQQ و CoQ10.. سلاح مزدوج في مواجهة الأمراض
يُعدّ نقص الـCoQ10 والـPQQ في الجسم عامل خطورة كبير للإصابة بعدد من الأمراض، إذ أظهرت الأبحاث وجود علاقة عكسية واضحة بين انخفاض مستوياتهما وارتفاع معدلات الإصابة بأمراض مثل:
- الألزهايمر والخرف
- ارتفاع ضغط الدم
- داء السكري
- أمراض القلب والأوعية الدموية
- الاكتئاب
- وحتى معدلات الخصوبة، حيث تبين أن نقصهما يؤثر سلبًا على القدرة الإنجابية
وليس هذا فقط، بل وجدت الأبحاث أن المكملين يعملان بشكل تآزري،
فما المقصود بالتآزر؟تأثيرًا أقوى بكثير مما لو تم تناول كل منهما على حدة، ولهذا السبب نجدهم معًا في تركيبات جاهزة (Formulas) تنتجها بعض الشركات المتخصصة، والتي تحتوي على PQQ + CoQ10 معًا.
ما هي الجرعة المثالية؟
عند تناولهما معًا، تُعد الجرعة المثالية هي:
- 200 ملج من CoQ10
- 20 ملج من PQQ
وقد أثبتت دراسة نُشرت في اليابان عام 2009 هذه الفعالية؛ حيث قُسم المشاركون إلى مجموعتين:
- مجموعة تناولت 20 ملج من PQQ فقط
- ومجموعة أخرى تناولت PQQ مع CoQ10
وقد كانت نتائج المجموعتين جيدة من حيث التأثير على الوظائف الإدراكية، لكن المجموعة التي تناولت التركيبة المشتركة أظهرت نتائج مذهلة، وتفوقت بشكل واضح.
لمن أنصح بتناول PQQ وCoQ10؟
- أولًا: كبار السن
أي شخص تجاوز سن الخمسين.
(وبالمناسبة، لا أعتبر من هم فوق الخمسين من كبار السن، لكنها المرحلة التي تبدأ فيها مستويات تجديد الخلايا بالانخفاض تدريجيًا).
أما من تجاوزوا السبعين عامًا، فهم الأكثر عرضة للإصابة بـأمراض التنكس العصبي وتراجع وظائف الدماغ مثل:
- الخرف
- الألزهايمر
- باركنسون
لذلك، فإن PQQ يُعتبر عنصرًا أساسيًا في أي برنامج علاجي أضعه لشخص يعاني من هذه المشكلات.
- ثانيًا: مرضى السكري ومقاومة الإنسولين وزيادة الوزن
هذه الفئات تعاني غالبًا من ضعف وظيفة الميتوكوندريا، والمكملين هنا يساعدان بشكل فعّال في تحسين إنتاج الطاقة وتنظيم عمليات التمثيل الغذائي.
- ثالثًا: من يعانون من مشاكل الغدة الدرقية أو الفيبرومايلجيا
وهما من الحالات الصحية التي تؤثر بشكل كبير على مستويات الطاقة، ويحتاج أصحابها إلى دعم دائم للميتوكوندريا.
- رابعًا: مرضى القلب والأوعية الدموية
حيث تُعد الميتوكوندريا ضرورية لصحة عضلة القلب وكفاءة عملها، وCoQ10 بالتحديد له دور كبير في هذا الجانب.
- خامسًا: المصابون بالأمراض المناعية والالتهابية المزمنة
فإن كنت تعاني من أي مشكلة صحية مزمنة، فغالبًا ستستفيد بشكل مباشر من تناول PQQ وCoQ10، نظراً لدورهما في تخفيف الالتهاب وتعزيز الطاقة الخلوية.
أخيرًا,
الميتوكوندريا ليست مجرد مكون داخل الخلية، بل هي قلب الطاقة في أجسامنا، والمسؤولة عن دعم كل العمليات الحيوية بداية من التركيز الذهني وحتى صحة القلب والمناعة.
ضعفها لا يعني فقط قلة النشاط، بل يرتبط بشكل مباشر بمجموعة واسعة من الأمراض المزمنة والتدهور التدريجي في جودة الحياة.
اليوم أصبحنا نمتلك معرفة قوية حول كيفية دعم الميتوكوندريا وتحفيزها للعمل بكفاءة أعلى، سواء من خلال نمط الحياة الصحي، أو من خلال ممارسات فعالة مثل الصيام والرياضة، أو عبر مكملات مدروسة علميًا مثل PQQ وCoQ10.
ابدأ اليوم بخطوة صغيرة، فقد تكون هذه الخطوة هي الفارق الحقيقي في استعادة طاقتك، صفاء ذهنك، وصحة جسمك على المدى الطويل.